Sunday 18 February 2018

Reflecting on Death


Commentary on some lines of poetry by Abu al-Atahiyah, may Allah have mercy on him

Graveyard in Damascus
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

وبعد: فهذا تحليل وشرح لبعض الأبيات للشاعر العباسي المشهور أبي العتاهية رحمه الله تعالى وهي كما يلي:

فكرتُ في الدنيا وجِدَّتها              فإذا جميع جديدها يبلى
وإذا جميع أمورها دُوَلٌ                بين البرية قلما تبقى
لقد مررتُ على القبور فما           ميَّزتُ بين العبد والمولى
ما زالت الدنيا منغِّصة               لم يَخلُ صاحبها من البلوى
دار الفجائع والهموم ودا             ر البؤس والأحزان والشكوى
بينا الفتى فيها بمنزلةٍ                  إذ صار تحت ترابها مُلقى  
تَقْفُو مساويها محاسنها               لا شيءَ بين النَّعى والبُشرى
ولَقَل يومٌ ذرَّ شارِقُه                  إلا سمعتُ بهالك يُنعَى
أتُراك تحْصي من رأيت من ال       أحياء ثم رأيتهم موتى

فكرتُ في الدنيا وجِدَّتها
أي: كنت أفكّر وأتدبر وأتأملُ في حال الدنيا وكيف يوجد فيها كثير من أشياء ومكوَّنات وُجدتْ من عهد قريب والمسكوت عنه في هذا البيت هو أنه لا يوجد كثير من أشياء ومكونات قديمة فأغلبيتها أو كلُّها تفنى وتعدم.

فإذا جميع جديدها يبلى
أي: لا يوجد شي جديد يبقى على حال جدته بل لا بدّ أن يتلف ويتدهور وفي استعمال كلمة "يبلى"  إشارة إلى معنيين: الأول هو البِلى كما ذكرنا والثاني هو البلاء والبَلِية وتوجد علاقة واضحة بين المعنيين ففي الابتلاء والمحنة والمصيبة تتغير الأحوال وتؤدي إلى البلى والهلاك في نهاية الأمر. وكما لا يوجد أي مفر من البلى لا يوجد أي مفر من البلاء فقد قال تعالى: "ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين" (البقرة 2:155)

وإذا جميع أمورها دُوَلٌ
أي: كما ذكرنا آنفاً لا يبقي أمرٌ أو شيءٌ على حالة واحدة إلا إذا كانت تلك الحالةُ التقلُّبَ والانقلابَ

بين البرية قلما تبقى
أي: كل أمور الدنيا دُوَلٌ بين الخلائق فمن كان في الخير والعافية اليوم قد يكون في البلاء والشدة غدا والعكس كذلك وقلّما يكون أحدٌ في حالة خير أو شر لمدة غير قصيرة فلذلك ينبغي للإنسان ألا يسعى وراء السعادة الكاملة في هذه الحياة الدنيا بل هو من العبث فهو يبحث عن شيء لا يوجد وعليه أن يصبر ويسعى وراء الحياة الخالدة

قد مررتُ على القبور فما                   ميَّزتُ بين العبد والمولى
أي: كل نفس ذائقة الموت ولا مفر منه سواء كانتَ عبدا أو سيدا فالقبر هو مصير كل من الطبقة الراقية والفقراء وكل ما بينهما ونلاحظ أن الشاعر قد استعمل كلمة "مولى" بدلا من "سيد" ف"مولى" من الكلمات التي تفيد معنيين متعاكسين وهما "عبد" و"سيد" (أي الفاعل والمفعول) ولا نميّز بينهما إلا من خلال السياق والسياق هنا واضح ومبين.

ما زالت الدنيا منغِّصة              لم يَخلُ صاحبها من البلوى
أي: الحالة الطبيعية للدنيا هي الإزعاج فلا يجد صاحبها راحة ويسرا إلا في لحظات مبعثرة ثم يأتي العسر والشدة ينغّصانه . ونلاحظ أن الشاعر قد استعمل كلمة "بلوى" (يعنى البلاء والبلية) ويوجد تجانس لفظي بين هذا الكلمة وكلمة "يبلى" وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: "الباءُ واللامُ والواوُ والياءُ أصلان: أحدهما إخلاق الشيء والثاني نوعٌ من الاختبار."

دار الفجائع والهموم ودا            ر البؤس والأحزان والشكوى
أي: الدنيا هي دار المصائب والكوارث وفوق ذلك هي دار الهموم والأحزان ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه سلّم يقول:"اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" فالفرق بين الهم والحزن كما يقول الإمام عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه الطب الروحاني هو أن الهم للمستقبل والحزن للسالف فيحزن الإنسان على ما فاته من عمره فقد ارتكب ذنوبا وفرّط في حق ربه وفي هذا النوع من الحزن فائدة ونفع لصاحبه فقال مالك بن دينار "بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هَم الآخرة." لكن يوجد الضرر في الفكر المُفْرط والمهدور فقال الإمام ابن الجوزي "أعلم أن الفكر يراد لاستدراك فارطٍ والنظر في مصلحة مستقبلة فإذا كان فيما لا يثمرهما كان ضررا وإذا كثر أنهك البدن." إذن نعوذ بالله من الهم والحزن من هذا النوع وكما قال الشاعر هما من طبيعة هذه الحياة الدنيا.
كذلك ذكر الشاعر البؤس يعني الفقر والشدة والمشقة وقد شرحنا هذا آنفا ثم ذكر الشكوى فالشكوى نتيجة عادية متوقعة لكل ما ذُكر في هذين البيتين: تدفعنا المشاكل والمشقة إلى أن نشكو وللأسف عددٌ كثيٌر منا يشكو إلى كل من قد يستمع إليه غير أن المطلوب منا ألا نشكو إلا إلى الله. قال تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" (يوسف 12:86) وقال رسول الله صلى لله عليه وسلم في دعاءه بعد إخراجه من الطائف: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي"

بينا الفتى فيها بمنزلةٍ                 إذ صار تحت ترابها مُلقى
أي:قد يوجد شابٌ ذو منصب في هذه الدنيا أو ذو ثروة وما نحو ذلك ثم يُدْركه الموتُ من حيث لا نحتسب فهو مُلقى تحت التراب, وفي ديننا نصلي على أمواتنا وندفنهم فورا بدون أي تأخير أو انتظار فلذلك الوقت بين خروج الروح ووضع الجسد في الأرض قصير جدا يوم أو أقل من ذلك. وفي حين ذاته قد يشير الشاعر إلى قصر العمر فيصبح الشاب عجوزا و لا يستغرق الانتقال من الأول إلى الثاني وقتا طويلا وبعد ذلك يحضر الموت.

تَقْفُو مساويها محاسنها              لا شيءَ بين النَّعى والبُشرى
ب"مساويها" ويقصد الشاعر "مساوئها" (وتخفيف الهمزة هي لغة قريش) يعني عوائقها وهي عكس محاسنها وفوائدها فيتبع الشرُ الخيرَ وتتبع المشقةُ الراحةَ. ثم بعد ذلك يشير الشاعر مرة أخرى إلى قصر العمر فلا يمضي وقت جدير بالاعتبار بين البشرى بولادة فلان والإعلان بوفاته.

ولَقَل يومٌ ذرَّ شارِقُه                 إلا سمعتُ بهالك يُنعَى
معنى ذرّ شارقه هو تطلع الشمس أي قلّما تتطلع عليّ شمس يوم جديد إلا وأسمع نعية جديدة

أتُراك تحْصي من رأيت من ال      أحياء ثم رأيتهم موتى
أي: أنا أفكّر في حالتك: هل تتدبر أحوال الناس تراهم أحياء ثم تراهم موتى؟ في عبارة أخرى يجب على كل فرد أن يتأمل في عمره وأعماله وأن يستعد للذي لا مفر منه ألا وهو الموت. ليس للإنسان أن يركن على الدنيا فهي قصيرة ومملوءة بالمصائب والفجائع وقد تنتهي في أي لحظة والآخرة خير وأبقى.
وأخيرا فإننا نجد راحة في كلمات هذه الأبيات وهي بمثابة مخرج من الهم والغم والحزن. كيف ولماذا؟ لأن الاعتراف والإدراك بأن الحياة الدنيا بعيدة كل البعد عن الكمال أو المثالية يدفعك إلى الإسلام لقضاء الله وقدره فبدون هذا الإدراك تمضي أيام حياتك وأنت تطمح إلى المثالية أو ذلك الشيء الذي تظن أنه سيمنحك الكمال أو السعادة الخالدة وفي البحث عن شيء معدوم تفقد قدرا وافرا من الوقت والجهد والطاقة والنتيجة هي لا شيء إلا الألم الشديد في قلبك ونفسك. جزا الله هذا الشاعر خيرا فكلماته تطمئن صدورنا وشعورنا وتُرجِع نفوسنا إلى الحق.

والله الموفق وله الحمد كله.    

Please click here for the podcast, which includes the translation of both the poem and the commentary.